ما بعد الفراق
للكاتب: فارس علي حزين
-حينما عم الظلام المكان ، هبت الرياح وقد ملأت الأركان جواً من الصقيع بعد منتصف الليل ، هناك يقبع في تلك الغرفة كائنٌ شبه بشري أو إن شئت قل شبه حي، لا تكاد تميز شكله ولا تلمح له ابتسامة ولا تجد في أعماقه رمقُ الحياة ينبض في روحه ، حتى علامات الإرهاق والسهر باتت واضحةٌ جداً تحت عينيه المتهالكة ..
منذ أن تفارقا وهو يمضي حياته وكأن شيئاً لم يحدث ، يحاول أن يتناسى أمر تلك الفتاة الحمقاء التي حطمت قلبه وخزلته أكبر خزلانٍ في حياته بعد عِشرةٍ دامت أعواماً عديدة ، دائماً ما يخبر نفسه بأنه قد نسي أمرها تماماً وأنه ما عاد يتذكرها ولا يوجد لها مكانٌ في قلبه ولو بمثقال ذرة ، ويحاول إقناع نفسه أنه غباء منه إذا ظن أنه ما زال يذكرها بعد الذي فعلته به وبأن أمر ذلك السهر المتكرر يومياً ما هو إلا مجرد إرهاق وأرق إعتاده ليس إلا ،....
بينما هو في الحقيقة لم ينسى أدق تفاصيلها ولم يحذف أي صورٍ تخصها على جواله ولم يقم برمي أي شيء أعطته إياه من قبل …
مر على فراقهما أربعة أشهر وخمسةٌ وعشرون يوماً وهو ما زال يقنع نفسه أنه بأحسن حال ، وأنه ما زال كما كان بالسابق محط أنظار أي فتاة جميلة جداً ، فلن تقف الدنيا على هذه الفتاة الغبية ولن تكون آخر فتاةٍ في العالم ، وبالطبع فمن كل قلبه قد كره تلك المخادعة التي تركته بدون أسباب بعد سنواتٍ لم تتعلم فيهن شيئاً من الوفاء ولا الإخلاص برغم أنها لم تر منه إلا السعادة بجانب إخلاصه ودعمه الشديد لها ،...
يستمر في شروده قليلاً يتذكر آخر كلامٍ دار بينهما ،...
ــ أنتِ شايفه بقرارك للبعد ده انك تحررتِ من إنسان كان كل همه يسعدك !!
ــ مش عارفه أقول ايه لكن هدعي لك تنساني
ــ لا ماتدعيش ، الله ولي الصابرين ، بس ما تنسيش نصايحي ليكي عن حياتك وتقربك لربنا
ــ مش هنسى وشكراً لك على كل شيء
ــ أتمنى لكِ حياة سعيدة ولو أنها بدوني ...
ــ ...........
ــ ...........
كانت كلماتها الأخيرة باردة جداً أشد من برود الثلج وأحدُّ من سكينٍ يقطع قلبه شطرين مع كل كلمة تلقيه بها .....
الفراق صعبٌ ومؤلمٌ للغاية حينما تعتاد على وجود شخص مقرب جداً منك وله في قلبك بساتينٌ من المعزة والمحبة التي تُسمر أجمل الورود بكل يومٍ تمر به مع هذا المقرب لقلبك ، ولكن حينما يكون الأمر متعلقاً بكرامة رجل وقتها ينتج هرمون الكبرياء ليدهس القلب ومشاعره السخيفة تحت أقدامه لتنتصر عزة النفس وترفع رايتها على جثة القلب الساذج المُسجَّى أمامها ... فمن طلب الرحيل طلبنا منه أن يغلق الباب ورائه ، ومن تركنا وغادر فقد أتاح مكاناً ووقتاً لمن يستحقون ذلك الحيز من القلب ، وينالون الوقت الثمين من سنوات العمر القليلة النادرة التي لن تعود ثانية مع كل لحظة تَمضي للوراء...
يجد نفسه يقوم بتشغيل أغنية في جواله لتنسيه بعضاً من حالته النفسية ، وتنسيه صقيع البرد الذي ينهش جسده النحيل ، وبينما هو ينصت للكلمات يجدها حزينة وزادته سوءاً ، يغيرها فيرى الأخرى أغنيةً حزينة أيضاً وبعد عدة تقليبات وتمحيصات أدرك أنه ليس لديه إلا الأغاني الحزينة فقط في هاتفه ، ويبدو أن الهاتف قد أصابته عدوى الألم والحزن من صاحبه ، يشتاط غضباً يلقي هاتفه على وسادته يقبض يديه بقوة ، يتحسس قلبه بأنامله المرتعشة ، يحاول ويحاول أن يهدِّئ أعصابه ، فإذ به يسمع ضجيجاً بداخله وصوتين يتجاذبان الكلام بينهما في عنفٍ شديد فينصت إلى الصوت بداخله قليلاً ليرى ماذا يحدث ..
ــ ألف مرة قلت لك لا تتدخل في شؤوني ولا تثق في أحد ولا تتعلق في أحد ولكنك غبيٌ أحمق
ــ لا بل أنت متبلد المشاعر فأنت تكره له الخير ولا تريده أن يستقر مع أنثى تقدره وتستحقه ، ولا تتركه يبحث عن غيرها
ــ أقسم أنك ستُحاسب أمام الله لأنك قد أرهقته جداً في أكاذيب مشاعرك التافهة لتجعله يبحث عن غيرها فتدمره مرةً ثانيةً كسابقتها يا أيها الغبي
ــ لماذا ترى أنه حرامٌ عليه أن يبحث عن غيرها ليملأ الفراغ المؤلم بداخله ، أليس هذا ظلماً بحقه ؟!
ــ ليس ظلماً يا مغفل ، لأنها بالتأكيد سوف تقوم بخزلانه كما فعلت التي قبلها ، وهو طيبٌ مخلص ولا تنسى أخر فتاةٍ مجرمة دمرته تماماً بسبب تعلقك وثقتك الكبيرة التافهة بها
ــ لا بل كل ما حدث كان بسببك فلا تبرر
ــ بل بسببك أنت يا مجرم
ضرب بيده على صدره بقوة مهدداً قلبه بالصمت ثم ضغط على رأسه بيديه وكأنه يربط لصاً ، موقفاً هيجان عقله ، ويتوعدهما إن كررا ذلك مجدداً فسوف يقوم بشنق عقله وتمزيق قلبه ، فقد سئم تلك الحروب الدامية المستمرة بينهما دائماً ،...
استدار ، شرب كوباً من الماء ، ولما سكت عنه الغضب أخذ الهدوء يحتل أعصابه ليغلق جفونه ويزيل الأفكار جلها من رأسه ، فأخذ يشرع في النوم بعمقٍ شديد والساعة تشير إلى الخامسة صباحاً .
بقلم فارس على حزين
تمت يوم 21/9/2022
طهطا ــ سوهاج ــ مصر
"جريدة حياة"
تعليقات
إرسال تعليق