القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع


صغيري



بكت بحزن علىٰ حال إبنها وما يفعله، ظنّت أن أمر تربيته سيكون سهلًا وأنه يستطيع معرفة ما ينفعه وما يضره، لكن لاشيء من هذا حدث، أصبح فتىًٰ يحب اللعب واللهو ليس جادًا أبدًا، كُل من رأوه أشفقوا علىٰ أمه وفقدوا الأمل في هدايته لكنها لم تفقد الأمل بتاتًا، وحاولت مراتٍ عديدة، وأقسمت بأن تحاول إلىٰ آخر نفسٍ بروحها.

------------------------------------------


منذ إثنى عشر عامًا..

كانت تقف في نافذة غرفتها تفكر، هي تريد صبيًا جميلًا؛ لِتربيه علىٰ الطاعة، على حبِ الله ورسوله، تريده أن يحفظ كتاب الله، تريد أن تحميه من فتن هذا الزمان، لا تريده أن يلهو ويلعب، أن يُشْغل بمتاع الدنيا، ثم شردتْ قليلًا، هي أيضًا تريده أن يكون فاتحُ الأقصىٰ، محررًا لأرض فَلسطين، تريده أن يكون فارسًا كَصلاح الدين الذي فتح الأقصى، وكَعمر الذي حرره، تريده ألَّا يفكر سوى في الآخرة تريده أن يكون ثابتًا في هذا الزمان الذي تشتد فيه العواصف والفتن..

------------------------------------

|عودة|

أفاقت من تفكيرها لكنه الآن يريد اللعب لا يريد الحفظ يريد اللهو فقط لو تحقق ما كان تصبو إليه، لكن رغبتها في أن تجعلُه كما تريد فاقت رغبته على ما يريد هو!.

--------------------------------------------


”صلاح“ استغرقت تلبيته لندائها زمنًا لكنَّها كانت صابرة..

- نعم أمي ”هكذا أجابها وهو غاضب“

- ”صلاح“هل تعلم لم أسميتك بهذا الإسم؟

استعد؛ ليغادر وهو يتكلم بعصبية: لا يا أمي ولا أريد أن أعرف.

أمسكت أمه يده برفقٍ والدموع تترقرق من عينيها: انتظر ياصغيري دعني أحكي لك عن صلاح الدين·

- من هو يا أمي؟ أنا أريد اللعب.

أجلست الأم صغيرها بحنانٍ وبدأت تحكي له عن البطل المقدام فاتح الأقصى ”صلاح الدين“.

هو يوسف بن أيوب، لُقِّبَ بصلاح الدين الأيوبي، وُلد سنه ٥٣٢هہ‌‏، بقلعة تكريت بالعراق عُرِف عنه الشهامة، والكرم، والسماحة، بطل موقعة حطين، حكَم مصر وبلاد الشام، حرر القدس من الصليبين وفتح القدس بيت المسلمين، قيل عنه "ملكٌ بلا خوفٍ ولا ملامة علَّم خصومه طريق الفروسية الحق"

لقد إتّصَف بالفروسية، والنزاهة حمل على عاتقه أمانة نشْر الإسلام وتحرير القدس، حرر القدس للمسلمين ولكنّه أُُسِر من إسرائيل وينادي للبطل الذي سيأتي إليه منتصرًا، البطل الذي سينصر الحق ويهزم الباطل، البطل الذي سيحرر القدس للمسلميين؛ لنصلي فيه من جديد.

قام صلاح من مكانه: حسنًا يا أمي علمت هل يمكن أن تتركيني ألعب؟

غضبت الأم وخانتها دموعها ونزلت على وجنتيها: متىٰ ستهتم؟ متى ستدرك أهمية ما أُحدثُك عنه؟ هيا أُغرب عن وجهي، هيّا.. إذهب.

غضب صلاح وصاح في وجه أمه: سأذهب، سأذهب ولن تري وجهي بعد الآن، سوف أُريحك مني.

ثم خرج من البيت مسرعًا وظلّ يجري دون أن يعلم أين سيذهب..!

---------------------------------------------


|تسريع الأحداث|

بعد مضي بضع ساعات..

خرجت الأم من بيتها تبحث عن صغيرها بعدما أدركت أنه ليس في البيت ثم تذكرته وهو يخبرها أنها لن ترىٰ وجهه مجددًا وظلّت تبكي.

----------------------------------------------


أما صلاح ذلك الولد الشقي فقد ظلّ  يجري دون أن يدري إلىٰ أين يذهب ثم توقف وقد رأىٰ قرية صغيرة علىٰ بُعْدِ خطواتٍ منه فقرر أن يذهب إليها.

وصل إلى تلك القرية واستند إلىٰ جدارٍ قريبٍ منه؛ ليستريح ولكن التعب كان قد تمكن منه فنام.

تسللت أشعة الشمس إلى وجه صلاح فاسيقظ وبدأ يتذكر ما حدث، تسلل الخوف والحزن إلىٰ ملامح وجهه فوجد من يُربتُ علىٰ كتفيه من الخلف ويقول بتساءل: أنتَ لست من هذه القرية يا بني، من أين أنت؟

- أجل،لكن كيف عرفت.

- ابتسم العجوز بهدوء وعقد يده خلف ظهره: من ملابسك، ملابسك تختلف عن ملابس هذه القرية.

- أجل، لقد جئت من قريةٍ مجاورة.

- تابع العجوز بنفس الهدوء: وما السبب؟

- أخفض رأسه بأسىٰ وقال بصوتٍ خافت: تشاجرتُ مع أمي.

- ما رأيك أن تستريح قليلًا ثم تقص لي ما حدث؟ تعال إلىٰ منزلي، إنه قريبٌ من هنا.

= حسنٌ.

ذهب الصغير إلىٰ المنزل مع العجوز وبعد أن تناول بعض الطعام واستردّ بعض عافيته بدأ في سرد ما حدث مع أمه.

- وهكذا خرجتُ من البيت وأنا أظنّ أني أُعاقبها لأنها صرخت في وجهي.

- العجوز بغموضٍ وإبتسامة هادئة: لقد عاقبتها بالفعل! وحرقت قلبها أيضًا، هل هذا يرضيك؟

- صلاح بغضب: أتبتسم؟ لا يرضيني بالطبع، لم أقصد أن أفعل ذلك ولم أقصد أن أرمي بنفسي إلىٰ قريتك هذه وألتقي بشخصٍ أحمقًا مثلك.

- لدي فكرة، ما رأيك أن تلتحق بكُتّاب القرية.

- موافق.

- هناكَ شيئٌ أخر..

- تكلم.

- هذه القرية تتعرض لِحروبٍ كثيرة لذا جميع الشباب هنا يخضعون للتدريبات القاسية للدفاع عن القرية وعليكَ أن تلتحق بها أنتَ أيضًا.

- صلاح بحماس: موافق، موافق، ومن المسؤول عن تدريبنا.

العجوز بهدوء: أنا يا فتىٰ.

- انطفأت حماسة صلاح وقال بصوتٍ خافت: لنرى ماذا ستفعل أيها العجوز.

- إذن هيّا لأُريك مكان التدريب.

- هيا.

------------------------------


بعد خمسِ سنوات.

بعد خمس سنواتٍ أمضاها صلاح  في التدريب الشاق؛ للدفاع عن تلك القرية، وكان أيضًا قد إنتهىٰ من حفظ القرآن كاملًا اشتاق لأمه ولحضنها الدافئ، تمنىٰ لو يعود إليها؛ ليرضيها ويجعلها تسامحه، ولم يعلم أن أمه هناك تلتقط آخر أنفاسها..

صوت ذاك العجوز الذي اعتاد عليه يناديهم للمرة المئة؛ لِصد هجوم بعض الأعداء عن القرية الذين غالبًا ما يكونون بعض قطاع الطرق الذين يرغبون في المال.

جلس قرب شجرةٍ يتنهد فاقترب العجوز منه قائلًا: أتود رؤية أمك؟

صلاح بحزن: بالتأكيد، أود أن أجعلها تسامحني وحسب وتضمني إلى حضنها مرةً أخرى.

- إذن هيّا لتذهب يا بني.

- أحقًا ما تقول يا رجل.

- لقد أبليت بلاءًا حسنًا ودافعت عن القرية حان الوقت لتدافع عن قريتك وترىٰ أمك، لقد جهزت لكَ حصانًا قويًا يحتمل مدة سفرك.

عانقه صلاح فرحًا: شكرًا لك لن أنسىٰ هذا الجميل الذي صنعته من أجلي.

امتطى صلاح حصانه ذو الشعر الذهبي الذي يشبه شعاع الشمس وإتجه نحو قريته ينشد رؤية أمه من جديد.

---------------------------------------


"بعد يومين".

استغرق سفر صلاح إلىٰ قريته يومان أمضاهما بين نهارٍ حارٍ وليلةٍ باردة، وصل إلىٰ القرية، كان كل شيءٍ كما كان الناس، الأحصنة، والأكواخ، دخل ونظرات الدهشة والتعجب يلاحقانه أينما ذهب وهو مندهش.

جرى نحوه رجلٌ في الثلاثين من عمره وظلّ يلتقط أنفاسه ثم قال بصوتٍ متقطع: صلاح.. أ..أمازلت حيًا؟

- ماذا تقول يا رجل؟ أنا هنا أمامك!

- إذن أدرك أمك إنها تلتقط آخر أنفاسها.

- أمي!

جرىٰ صلاح نحو كوخ أمه ودخل وتوجه إلىٰ أمه التي كانت وكأنها كانت تصارع المرض من أجله وعندما رأته استسلمت وقال لها بحزنٍ والدموع تفيض من عينه: أمي، لا ترحلي، وأمسك بيدها ها أنا قد عدت من جديد، ها أنا أطلب رضاكِ، أرجوكِ لا تتركيني.

التفتت أمه التي أصبحت عجوزًا تصارع الموت من أجل إبنها: لقد إنتهت رسالتي يا بني وحان الوقت لأذهب، أنا راضيةٌ عنك يا ولدي.

ابتسم الإبن ومسح دموعه ففهمت الأم أنه قد وعى هدفه في تلك الحياة وأنه أصبح شابًا واعيًا فقالت آخر كلماتها: عدني يا بني أن تدافع عن دينك وأن تكون قائدًا مسلمًا ثم همست في أذنه بحنان إني نذرتك فاتحًا للقدس ومحررًا لفلسطين فلا تخيب أملي.

خرج صلاح كان بالأمس فتًىٰ قويًّا شجاعًا يدافعُ عن القرىٰ، لا يهزمه شيءٌ ولا يرده شيءٌ عن مراده، أما الآن وقد ذهبت أمه فقد انكسر قلبه، لكنه لن يخلف أبدًا عهده الذي عاهد به أمه، توقف أمام منزله يستعيد ذكرياته فيها، أبوه الذي كان يداعبه وهو صغيرٌ ويدافع عنه عندما تغضب عليه أمه، وأمه التي كانت دائمًا تحاول؛ لتجعله رجلٌ بحق.

ثم أخرج عود ثقاب وقام بإلقائه وهو يبتسم.

- صلاح ماذا تفعل يا رجل؟

- لم يعد لهذا المنزل فائدةٌ بعد رحيل سُكانه الطيبين، سأسافرُ بين القرىٰ، وسأنفذُ مراد أمي.


- مَريَم مُحمد.

تعليقات